سورة طه - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (طه)


        


{طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)}
قوله عزّ وجلّ {طه} قرأ أبو عمرو بفتح الطاء وكسر الهاء، وقرأ أهل المدينة والشام بين الكسر والفتح فيهما، وقرأ الأعمش وحمزه والكسائي بكسر الهاء والطاء، وقرأ عاصم وابن كثير بالتفخيم فيهما وكلها لغات صحيحة.
أخبرنا عبد الله بن حامد عن محمد بن عمر بن حميد الأزدي عن محمد بن الجهم السمري، عن يحيى بن زياد الفرّاء عن عيسى بن الربيع عن زرّ بن حبيش قال: قرأ رجل على عبد الله بن مسعود {طه} فقال له عبد الله: {طِه} فقال له الرجل: يا أبا عبد الرَّحْمن أليس أُمر أن يطأ قدميه؟ فقال عبد الله: طِه، هكذا أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واختلفوا في تفسيره، فروى عبد الله بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: هو قسم أقسم الله به وهو اسم من أسماء الله، وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: هو كقولك: افعل، وقال مجاهد والحسن وعطاء والضحاك: معناه يا رجل، وقال عكرمة: هو كقولك: يا رجل بلسان الحبشة يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وقال قتادة: هو يا رجل بالسريانيّة، وقال سعيد بن جبير: يا رجل بالنبطية. وروى السدّي عن أبي مالك وعكرمة: طه، قالا: يا فلان، وقال الكلبي: هو بلغة عكّ: يا رجل، قال شاعرهم:
ان السفاهة طه في خلائقكم *** لا قدّس الله أرواح الملاعين
وقال آخر:
هتفت بطه في القتال فلم يجب *** فخفت لعمرك أن يكون موائلا
مقاتل بن حيان معناه: طئ الأرض بقدميك، يريد في التهجّد، وقال محمد بن كعب القرظي: أقسم الله تعالى بطَوله وهدايته، وموضع القاسم قوله: {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى}.
وقال جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه: طه: طهارة أهل بيت محمد صلى الله عليه وسلم ثم {إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [الأحزاب: 33] وقيل: الطاء شجرة طوبى، والهاء هاويه. والعرب تعبّر ببعض الشيء عن كلّه فكأنّه أقسم بالجنة والنار.
وقال سعيد بن جبير: الطاء افتتاح اسمه طاهر وطيب، والهاء افتتاح اسمه هادي. وقيل: الطاء يا طامع الشفاعة للأُمة، والهاء يا هادي الخلق إلى الملّة.
وقيل: الطاء من الطهارة، والهاء: من الهداية، وكأنه تعالى يقول لنبيّه صلى اللّه عليه وسلم: يا طاهراً من الذنوب، ويا هادياً إلى علاّم الغيوب، وقيل: الطاء: طبول الغزاة، والهاء: هيبتهم في قلوب الكفار، قال الله تعالى {سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب} [آل عمران: 151]. وقال: وقذف في قلوبهم الرعب، وقيل: الطاء: طرب أهل الجنة، والهاء: هوان أهل النار في النار، وقيل: الطاء تسعة في حساب الجمل والهاء خمسة، أربعة عشر، ومعناها يا أيّها البدر {مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} قال مجاهد:
كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه يربطون الحبال في صدورهم في الصلاة بالليل ذلك بالفرض، وأنزل الله تعالى هذه الآية.
وقال الكلبي: «لمّا نزل على رسول الله الوحي بمكّة اجتهد في العبادة واشتدّت عبادته فجعل يصلّي الليل كله، فكان بعد نزول هذه الآية ينام ويصلّي».
أخبرنا عبد الله بن حامد بن محمد الهروي عن بشر بن موسى الحميدي عن سفيان بن زياد بن علاقة قال: سمعت المغيرة بن شعبة يقول: «قام رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تورمت قدماه، وقيل له: يا رسول الله أليس قد غفر الله لك ما تقدّم من ذنبك وما تأخّر؟ فقال صلى الله عليه وسلم أفلا أكون عبداً شكوراً».
وقال مقاتل: قال أبو جهل بن هشام والنصر بن الحرث للنبىّ صلى الله عليه وسلم إنّك لتسعى بترك ديننا وذلك لما رأوا من طول عبادته وشدّة اجتهاده فإننا نراه أنّه ليس لله وأنّك مبعوث إلينا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بل بعثت رحمة للعالمين، قالوا: بل أنت شقيّ، فأنزل الله تعالى {طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى} وأصل لكن أنزلناه عظة لمن يخشى.
قال الحسين بن الفضل: فيه تقديم وتأخير مجازه: ما أنزلنا عليك القرآن إّلا تذكرة لمن يخشى ولئلاّ تشقى، تنزيلاً بدل من قوله تذكرةً.
وقرأ أبو الشامي: تنزيل بالرفع يعني هذا {تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى} يعني العالية الرفيعة وهو جمع العُليا كصغرى وصغر وكبرى وكبر {الرحمن عَلَى العرش استوى * لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى} يعني التراب الذي تحت الأرضين وهو التراب الندي، تقول العرب: شبر ندىّ وسهر نديّ وسهر مرعىّ.
قال ابن عباس: الأرض على ظهر النون والنون على بحر وإنّ طرفي النون رأسه وذنبه يلتقيان تحت العرش على صخرة خضراء، وخضرة السماء منها وهي الصخرة التي ذكرها الله تعالى في القرآن في قصة لقمان {فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} [لقمان: 16] الصخرة على قرن ثور، والثور على الثرى {وَمَا تَحْتَ الثرى} لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ، وذلك الثور فاتح فاهُ فإذا جعل الله عزّ وجلّ البحار بحراً واحداً سالت في جوف ذلك الثور، فإذا وقعت في جوفه يبست.
{وَإِن تَجْهَرْ بالقول} تُعلن {فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى}.
أخبرنا عبد الله بن حامد، أخبرنا حامد أخبرنا بشر بن موسى عن عبد الله بن صالح العجلي، حدَّثنا أبو الأحوص عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس في قوله: {يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى} قال: وأخفى حديث نفسك نفسك.
وأخبرني عبد الله بن حامد عن أبي الطاهر محمد بن الحسن، حدَّثنا إبراهيم بن أبي طالب عن محمد بن النعمان بن مسيل، حدَّثنا يحيى بن أبي روق عن أبيه عن الضحاك عن ابن عباس قال: السرّ ما أسررت في نفسك، وأخفى أخفى من السّر، ما ستحدّث به نفسك، ما لا تعلم أنّك تحدّث به نفسك.
وروى عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير قال: السر ما تُسرّ في نفسك، وأخفى من السرّ ما لم يكن وهو كائن، قال: وأنت تعلم ما تسرّ اليوم ولا تعلم ما تسرّ غداً، والله عزّ وجلّ يعلم ما أسررت اليوم وما تسرّ غداً.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: السرّ ما أسرّ ابن آدم في نفسه، وأخفى ما خفي على ابن آدم مّما هو فاعله قبل أن يعلمه، فالله يعلم ذلك كله، فعلمه فيما مضى من ذلك وما بقي علم واحد، وجميع الخلائق عنده في ذلك كنفس واحدة.
وقال مجاهد: السرّ العمل الذي يسرّون من الناس، وأخفى الوسوسة، وقال زيد بن أسلم: معناه يعلم أسرار العباد، وأخفى سرّه فلا يعلم.
وقال الحسن: السرّ ما أسرّ الرجل إلى غيره، وأخفى من ذلك ما أسرّه في نفسهِ.
ثم وحّد نفسه فقال: {الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى}.


{وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16) وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21) وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23)}
{وَهَلْ أَتَاكَ} يا محمد {حَدِيثُ موسى} قال أهل المعاني: هو استفهام اثبات مجازه: أليس قد أتاك؟. وقال بعضهم: معناه: وقد أتاك، وقال: لم يكن قد أتاه ثم أخبره.
{إِذْ رَأَى نَاراً} ليلة الجمعة، وقال وهب بن منّبه: استأذن موسى شعيباً في الرجوع إلى والدته فأذن له فخرج بأهله، فولد له ابن في الطريق في ليلة شاتية مثلجة وقد جاد عن الطريق، فقدح موسى النار فلم تور المقدحة، فبينا هو في مزاولة ذلك أبصر ناراً من بعيد عن يسار الطريق {فَقَالَ لأَهْلِهِ} لامرأته {امكثوا} أقيموا مكانكم {إني آنَسْتُ} أبصرتُ {نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ} يعني شعلة من النار، والقبس: ما اقتبس من خشب أو قصب أو غير ذلك {أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى} يعني من يدلّني على الطريق {فَلَمَّآ أَتَاهَا} رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها كأنّها نار بيضاء تتقدّم، وسمع تسبيح الملائكة، ورأى نوراً عظيما فخاف وتعّجب، فأُلقيت عليه السكينة ثمّ {نُودِيَ ياموسى * إني أَنَاْ رَبُّكَ} وإنّما كرّر الكناية لتوكيد الدلالة وإزالة الشبهة وتحقيق المعرفة، ونظيره قوله للرسول عليه السلام {وَقُلْ إني أَنَا النذير المبين} [الحجر: 89].
{فاخلع نَعْلَيْكَ} وكان السبب في أمره بخلع نعليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد، قال: أخبرنا أحمد بن يحيى العبيدي قال: حدَّثنا أحمد بن نجدة قال: حدَّثنا الحمّاني قال: حدَّثنا عيسى بن يونس عن حميد بن عبد الله عن عبد الله بن الحرث العنبسي عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {فاخلع نَعْلَيْكَ} قال: كانتا من جلد حمار ميّت، وفي بعض الأخبار: غير مدبوغ، وقال الحسن: ما بال خلع النعلين في الصلاة وصلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في نعليه؟ وإنّما أُمر موسى عليه السلام أن يخلع نعليه إنّهما كانتا من جلد حمار، وقال أبو الأحوص: أتى عبد الله أبا موسى في داره فأُقيمت الصلاة فقال لعبد الله تقدّم، فقال له عبد الله: تقدّم أنت في دارك فتقدّم فنزع نعليه، فقال له عبد الله: أبالواد المقدّس أنت؟.
وقال عكرمة ومجاهد: إنّما قال له: اخلع نعليك كي تمسّ راحة قدميك الأرض الطيّبة وينالك بركتها لأنّها قدّست مرّتين.
وقال بعضهم: أُمر بذلك لأنّ الحفوة من أمارات التواضع، وكذلك فعل السّلف حين طافوا بالبيت.
قال سعيد بن جبير: قيل له: طأ الأرض حافياً، كيما يدخل كعبه من بركة الوادي.
وقال أهل الاشارة: معناه: فرِّغ قلبك من شغل الأهل والولد.
قالوا: وكذلك هو في التعبير من رأى عليه نعلين تزوّج.
فخلعهما موسى وألقاهما من وراء الوادي {إِنَّكَ بالواد المقدس} المطهّر {طُوًى} اسم الوادي، وقال الضحاك: مستدير عميق مثل الطوى في استدارته، وقيل: اراد به إنك تطوي الوادي، وقيل: هو الليل، يقال: أتيتك طوى من الليل، وقيل: طُويَت عليه البركة طيّاً، وقرأ عكرمة: طوى بكسر الطاء وهما لغتان، وقرأ أهل الكوفة والشام: طِوَىً بالتنوين وإلاّ جرّاً لتذكيره وتحقيقه، الباقون من غير تنوين، قال: لأنّه معدول عن طاو أو مطوىّ، فلّما كان معدولاً عن وجهه كان مصروفاً عن إعرابه مثل عمر وزفر وقثم.
{وَأَنَا اخترتك} اصطفيتك، وقرأ حمزة: وإنّا اخترناك بلفظ الجمع على التعظيم {فاستمع لِمَا يوحى * إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ فاعبدني} ولا تعبد غيري {وَأَقِمِ الصلاة لذكري} قال مجاهد: أقم الصلاة لتذكرني فيها، وقال مقاتل: إذا تركت الصلاة ثمَّ ذكرتها فأقمها، يدلّ عليه ما أخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا محمد بن يعقوب قال: حدَّثنا إبراهيم بن مرزوق قال: حدَّثنا سعيد بن عامر عن سعيد عن قتادة عن أنس أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من نسي صلاة أو نام عنها فليصلّها إذا ذكرها، إنّ الله سبحانه يقول: {وَأَقِمِ الصلاة لذكري}».
وقيل: هو مردود على الوحي يعني فاستمع لما يوحى واستمع لذكري.
{إِنَّ الساعة آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} فأكاد صلة، كقول الشاعر:
سريع إلى الهيجاء شاك سلاحه *** فما أن يكاد قرنه يتنفس
يعني: فما يتنفس من خوفه، والفائدة في الإخفاء التخويف والتهويل، قال ابن عباس وأكثرالمفسّرين: معناه أكاد أُخفيها من نفسي، وكذلك هو في مصحف اُبي، وفي مصحف عبد الله: أكاد أُخفيها من نفسي فكيف يعلمها مخلوق؟.
وفي بعض القراءات فكيف أظهرها لكم؟ قال قطرب: فإن قيل: كيف يخفي الله من نفسه وهو خلق الإخفاء؟ قلنا: إنّ الله سبحانه كلّم العرب بكلامهم الذي يعرفونه، ألا ترى أنَّ الرجل يعذل أخاه فيقول له: أُذعت سرّي، فيقول مجيباً له معتذراً إليه: والله لقد كتمت سرّك نفسي فكيف أذعته؟ معناه عندهم: أخفيته الإخفاء كله، وقال الشاعر:
أيام تُعجبني هند وأُخبرها *** ما أكتم النّفس من حاجي وإسراري
فكيف يخبرها ما يكتم عن نفسه؟ فمجاز الآية على هذا.
وقرأ الحسن وسعيد بن جبير: أَخفيها بفتح الألف أي أُظهرها وأُبرزها يقال: خفيت الشيء إذا أظهرته، وأخفيته إذا سترته، قال امرؤ القيس:
خفاهنّ من إنفاقِهنّ كأنّما *** خفاهنّ ودق من سحاب مركّب
أي اخرجهن.
{لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى} أي تعمل من خير وشرّ {فَلاَ يَصُدَّنَّكَ} يصرفنّك {عَنْهَا} يعني عن الإيمان بالساعة {مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا واتبع هَوَاهُ} مراده {فتردى} فتهلك.
{وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ} وكانت لها شعبتان وفي أسفلها سنان واسمها نبعة في قول مقاتل {أَتَوَكَّأُ} اعتمد {عَلَيْهَا} إذا مشيت وإذا أعييت وعند الوثبة والطفرة. {وَأَهُشُّ} وأخبط {بِهَا} الشجر ليتناثر ورقها فتأكل غنمي، وقرأ عكرمة {وأهسُّ} بالسين يعني وازجر بها الغنم، وذلك أن العرب تقول: هس هس، وقال النضر بن شمّيل: سألت الخليل عن قراءة عكرمة فقال: العرب تعاقب بين الشين والسين في كثير من الكلام، كقولهم: شمّت العاطس وسمّته، وشن عليه الدرع وسن، والروشم والروسم للختم.
{وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ} حوائج ومنافع، واحدتها مأرَبة ومَأرُبة بفتح الراء وضمّها {أخرى} ولم يقل أُخَر لرؤوس الآي.
قال ابن عباس: كان موسى عليه السلام يحمل عليها زاده وسقاءه، فجعلت تماشيه وتحدّثه، وكان يضرب بها الأرض فيخرج ما يأكل يومه، ويركزها فيخرج الماء فإذا رفعها ذهب الماء، وكان يردّ بها غنمه، وتقيه الهوام بإذن الله، وإذا ظهر له عدّو حاربت وناضلت عنه، وإذا أراد إلاسقاء من البئر أدلاها فطالت على طول البئر وصارت شعبتاها كالدلو حتى يستقي، وكان يظهر على شعبتيها كالشمعتين بالليل تضيء له ويهتدي بها، وإذا اشتهى ثمرة من الثمار ركزها في الأرض فتغصّنت غصن تلك الشجرة وأورقت ورقها وأثمرت ثمرها، فهذه المآرب.
قال الله سبحانه {أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا} من يده {فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى} تمشي مسرعة على بطنها.
قال ابن عباس: صارت حيّة صفراء لها عرف كعرف الفرس، وجعلت تتورّم حتى صارت ثعباناً، وهو أكبر ما يكون من الحيّات، فلذلك قال في موضع {كَأَنَّهَا جَآنٌّ} [النمل: 10] وهو أصغر الحيّات، وفي موضع ثعبان وهو أعظمها، فالجانّ عبارة عن ابتداء حالها، والثعبان إخبار عن انتهاء حالها، وقيل: أراد أنّها في عظم الثعبان وسرعة الجانّ، فأمّا الحيّة فإنها تجمع الصغر والكبر والذكر والأُنثى.
قال فرقد السخي: كان ما بين جنبيها أربعين ذراعاً فلما ظهر في موسى من الخوف ونفار الطبع لمّا رأى من الاعجوبة {قَالَ} الله تعالى له {خُذْهَا وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا} أي إلى سيرتها وهيئتها {الأولى} نردّها عصاً كما كانت {واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ} يعني إبطك.
وقال الكلبي: أسفل من الإبط، وقال مجاهد: تحت عضدك، وقال مقاتل: يعني مع جناحك وهو عضده {تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} برص ولا داء {آيَةً أخرى} سوى العصا، فأخرج يده من مدرعة له مضرّبة بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى} وكان من حقّه الكبر وإنّما قال: الكبرى وفاقاً لرؤس الآي، وقيل: فيه اضمار معناه {لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا} الآية الكبرى دليله قول ابن عباس: كانت يد موسى أكبر آياته.


{اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35) قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40) وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43) فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى (44) قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48) قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)}
{اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى} عصى وعلا وتكبّر وكفر، فادعه إلى عبادتي، واعلم بأنّي قد ربطت على قلبه، قال: فكيف تأمرني أن آتيه وقد ربطتَ على قلبه؟ فأتاه ملك من خزّان الريح فقال: انطلق، فإنّا اثنا عشر من خزّان الريح منذ خلقنا الله سبحانه نحن في هذا فما علمناه، فامض لأمر الله، فقال موسى عند ذلك {قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي} وسّع وليّن قلبي بالإيمان والنبوّة {وَيَسِّرْ لي أَمْرِي} وسهّل عليّ ما أمرتني به من تبليغ الرسالة إلى فرعون {واحلل} وابسُط وافتح {عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي}.
قال ابن عباس: كانت في لسانه رُتّة، وذلك أنّه كان في حجر فرعون ذات يوم فلطمه لطمة وأخذ بلحيته فقال فرعون لآسية امرأته: انَّ هذا عدوّي، فقالت آسية: على رسلك إنّه صبي لا يفرّق بين الأشياء ولا يميّز، ثم جاءت بطستين فجعلت في أحدهما الجمر وفي الأُخرى الجوهر ووضعتهما بين يدي موسى، فأخذ جبرئيل بيد موسى فوضعها على النار حتى رفع جمرة ووضعها على لسانه فتلك الرُتّة {يَفْقَهُواْ قَوْلِي} كي يفهموا كلامي {واجعل لِّي وَزِيراً} معيناً وظهيراً {مِّنْ أَهْلِي} ثمَّ بين من هو فقال: {هَارُونَ أَخِي * اشدد بِهِ أَزْرِي} قوِّ به ظهري {وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي} يعني النبوّة وتبليغ الرسالة {كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً} نصلّي لك {وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً * إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً}.
وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق وابن عامر: اشدد به أزري بفتح الألف وأُشركه بضم الألف على الجزاء والجواب حكاية عن موسى أنّي أفعل ذلك، قال الله سبحانه {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى} قد أُعطيت مرادك وسؤالك يا موسى.
{وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أخرى} قبل هذا وهي {إِذْ أَوْحَيْنَآ إلى أُمِّكَ} وحي إلهام مثل وحي النحل {مَا يوحى * أَنِ اقذفيه} أن اجعليه {فِي التابوت}.
قال مقاتل: والمؤمن الذي صنع التابوت من آل فرعون اسمه خربيل، وقيل: إنّه كان من بردي {فاقذفيه فِي اليم} يعني نهر النيل {فَلْيُلْقِهِ اليم بالساحل} يعني شاطئ النهر، لفظه أمر ومعناه خبر مجازه: حتى يلقيه اليمّ بالساحل {يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} يعني فرعون، فاتّخذت تابوتاً وجعلت فيه قطناً محلوجاً، ووضعت فيه موسى، وقيّرت رأسه وَخصَاصه يعني شقوقه ثمّ ألقته في النّيل، وكان يشرع منه نهر كبير في دار فرعون، فبينا هو جالس على رأس البركة مع امرأته آسية إذا بتابوت يجيء به الماء، فلمّا رأى ذلك أمر الغلمان والجواري بإخراجه فأخرجوه وفتحوا رأسه فإذا صبيّ من أصبح الناس وجهاً، فلمّا رآه فرعون أحبّه بحيث لم يتمالك، فذلك قوله سبحانه {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} قال ابن عباس: أحبّه وحبّبه إلى خلقه، قال عطيّة العوفي: جعل عليه مُسحة من جمال لا تكاد يصبر عنه مَن رآه، قال قتادة: ملاحة كانت في عيني موسى، ما رآه أحد إلاّ عشقه.
{وَلِتُصْنَعَ على عيني} أي ولتربّى وتغذّى بمرأىً ومنظر منّي {إِذْ تمشي أُخْتُكَ} واسمها مريم متعرّفة خبره {فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ} يرضعه ويضمّه إليه، وذلك أنّه كان لا يقبل ثدي امرأة، فلمّا قالت لهم أُخته ذلك قالوا: نعم، فجاءت بالأُمّ فقبل ثديها فذلك قوله: {فَرَجَعْنَاكَ} فرددناك {إلى أُمِّكَ}. وفي مصحف أُبي فرددناك إلى أُمّك {كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها} بلقائك وبقائك {وَلاَ تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْساً} قال ابن عباس: قتل قبطياً كافراً.
قال كعب الأحبار: كان إذ ذاك ابن اثنتي عشرة سنة {فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم} أي من غّم القتل وكربته {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً}. قال ابن عباس: اختبرناك اختباراً. وقال الضحّاك وقتادة ومقاتل، ابتليناك ابتلاءً. وقال مجاهد: أخلصناك إخلاصاً {فَلَبِثْتَ سِنِينَ} يعني عشر سنين {في أَهْلِ مَدْيَنَ} وهي بلدة شعيب على ثلاث مراحل من مصر، قال وهب: لبث عند شعيب ثمان وعشرين سنة، عشر سنين منها مهر امرأته صفيرا بنت شعيب وثماني عشرة سنة أقام عنده حتى وُلد لَه.
{ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى}. قال مقاتل: على موعد، قال محمد بن كعب: ثم جئت على القدر الذي قدّرت أنك تجيء.
قال عبد الرَّحْمن بن كيسان: على رأس أربعين سنة وهو القدر الذي يوحي فيه إلى الأنبياء، قال الكلبي: وافق الكلام عند الشجرة.
{واصطنعتك لِنَفْسِي} اخترتك واصطفيتك واختصصتك بالرسالة أو النبوّة {اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي} اليد والعصا {وَلاَ تَنِيَا} قال ابن عباس: لا تضعفا، وقال السُدّي: لا تفترا، وقال محمد بن كعب: لا تقصّرا.
وروى علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لا تبطئا، وقي قراءة ابن مسعود: ولا تهنا.
{اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى * فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً} قال ابن عباس: لا تعنّفا في قولكما ولا تغلّظا، وقال السدّي وعكرمة: كنّياه قولا له: يا أبا العباس، وقيل: يا أبا الوليد.
وقال مقاتل: يعني بالقول اللين هل لك إلى أن تزكّى وأهديك إلى ربّك فتخشى.
وقال أهل المعاني: معناه الطُفا له في قولكما فإنّه ربّاك وأحسن تربيتك وله عليك حقّ الأُبوّة فلا تجبهه بمكروه في أوّل قدومك عليه، يقال: وعده على قبول الإيمان شباباً لا يهرم وملكاً لا يُنزع عنه إلاّ بالموت، ويبقى عليه لذّة المطعم والمشرب والمنكح إلى حين موته.
قال المفسّرون: وكان هارون يومئذ بمصر فأمر الله عزّ وجلّ أن يأتي هو وهارون، وأوحى إلى هارون وهو بمصر أن يتلقى موسى فتلقّاه إلى مرحلة وأخبره بما أُوحي إليه فقال له موسى: إن الله سبحانه أمرني أن آتي فرعون فسألت ربّي عزّ وجلّ أن يجعلك معي.
وقوله: {لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى} أي يسلم.
فإن قيل: كيف قال: لعله يتذكر أو يخشى وعلمه سابق في فرعون أنّه لا يتذكّر ولا يخشى؟.
قال الحسين بن الفضل: هو مصروف إلى غير فرعون، ومجازه: لكي يتذكّر متذكّر أو يخشى خاش إذا رأى برّي وإلطافي بمن خلقته ورزقته، وصححت جسمه وأنعمت عليه ثم ادّعى الربوبية دوني.
وقال أبو بكر محمد بن عمر الورّاق: لعلّ ها هنا من الله واجب، ولقد تذّكر فرعون حيث لم تنفعه الذكرى والخشية، وذلك قوله حين الجمَهُ الغرقُ في البحر {آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين} [يونس: 90].
سمعت أبا القاسم الحسنن بن محمد بن حبيب يقول: سمعت أبي يقول سمعت علىّ بن محمد الوراق يقول: سمعت يحيى بن معاذ الرازي يقول وقرأ هذه الآية: هذا رفقك بمن يقول: أنا الإله، فكيف رفقك بمن يقول: أنت الإله؟
قال أبو القاسم الحسين فبنيت عليه ألفاظاً اقتديت به فيها فقلت: هذا رفقك بمن ينافيك فكيف رفقك بمن يصافيك؟
هذا رفقك بمن يعاديك فكيف رفقك بمن يواليك؟
هذا رفقك بمن يسبّك فكيف رفقك بمن يحبّك؟
هذا رفقك بمن يقول لك نِدّاً فكيف رفقك بمن يقول فرداً؟
هذا رفقك بمن ضلّ فكيف رفقك بمن ذل هذا رفقك بمن اقترف فكيف رفقك بمن اعترف؟
هذا رفقك بمن أصرَّ فكيف رفقك بمن أقرَّ؟
هذا رفقك بمن استكبر فكيف رفقك بمن استغفر؟
{قَالاَ} يعني موسى وهارون {رَبَّنَآ إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ}. قال ابن عباس: يعجّل بالقتل والعقوبة، وقال الضحّاك: تجاوز الحدّ، وقيل: يغلبنا {أَوْ أَن يطغى} يتكبرّ ويستعصي علينا.
{قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ} بالدفع عنكما {أَسْمَعُ} قولكما وقوله: {وأرى} فعله وفعلكما {فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ} أي ولا تتعبهم في العمل، وكانت بنو إسرائيل عند آل فرعون في عذاب شديد يقتل ابناءهم ويستخدم نساءهم ويكلفهم من العمل واللبن والطين وبناء المدائن ما لا يقدرون عليه.
قال موسى {قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ} قال فرعون: وما هي؟ قال: فأدخل يده في جيب قميصه ثمَّ أخرجها فإذا هي بيضاء لها شعاع كشعاع الشمس، غلبت نور الشمس، فعجب منها ولم يُره العصا إلاّ بعد ذلك يوم الزينة.
{والسلام على مَنِ اتبع الهدى} يعني من أسلم {إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ} أنبياء الله {وتولى} أعرض عن الإيمان، ورأيت في بعض التفاسير أنَّ هذه أرجى آية للموحّدين في القرآن.
{قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى} يعني يا موسى وهارون فذكر موسى دون هارون لرؤوس الآي.
{قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} قال الحسين وقتادة: أعطى كلّ شئ صلاحه وهداه لما يصلحه.
وقال مجاهد: لم يجعل الإنسان في خلق البهائم، ولا خلق البهائم في خلق الإنسان، ولكن خلق كلّ شي فقدّره تقديراً.
وقال عطيّة: أعطى كلّ شئ خلقه يعني صورته.
وقال الضحّاك: أعطى كلّ شيء خلقه، يعني اليد للبطش والرجل للمشي واللسان للنطق والعين للبصر والأُذن للسمع.
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: أخبرنا عبد الرَّحْمن بن محمد الزهري قال: حدَّثنا أحمد ابن سعيد قال: حدَّثنا سعيد بن سليمان عن إسماعيل بن زكريا عن إسماعيل بن أبي صالح، أعطى كل شي خلقه {ثُمَّ هدى} قال: هداه لمعيشته.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: {أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ} يعني شكله، للإنسان الزوجة وللبعير الناقة وللفرس الرمكة وللحمار الأتان ثمَّ هدى أي عرَّف وعلّم وألهم كيف يأتي الذكر الأُنثى في النكاح. وقرأ نصير خلَقه بفتح اللام على الفعل.
{قَالَ} فرعون {فَمَا بَالُ القرون الأولى} وإنَما قال هذا فرعون لموسى حين قال موسى: {إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب * مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ والذين مِن بَعْدِهِمْ} [غافر: 30-31]، فقال فرعون حينئذ له: فما بال القرون الاولى التي ذكرت؟ فقال موسى {عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ} يعني اللوح المحفوظ، وإنّما ردّ موسى علم ذلك إلى الله سبحانه لأنّه لم يعلم ذلك، وإنَما نزلت التوراة عليه بعد هلاك فرعون وقومه {لاَّ يَضِلُّ رَبِّي} أي لا يخطئ {وَلاَ يَنسَى} فيتذكّر، وقال مجاهد: هما شيء واحد.
{الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً} قرأه أهل الكوفة بغير ألف أي فرشاً، وقرأ الباقون مهاداً أي فراشاً واختاره أبو عبيد وأبو حاتم لقوله: {أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً} [النبأ: 6] ولم يختلفوا فيه أنّه بالألف.
{وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً} أي أدخل وبيّن وطرّق لكم فيها طرقاً. {وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً} أصنافاً {مِّن نَّبَاتٍ شتى} مختلف الألوان والطعوم والمنافع من بين أبيض وأحمر وأخضر وأصفر، ووهب كلّ صنف زوجاً، ومنها للدوابّ ومنها للناس ثمَّ قال: {كُلُواْ وارعوا} أي ارتعوا {أَنْعَامَكُمْ} يقول العرب: رعيتُ الغنم فرَعَتْ لازم ومتعدّ.
{إِنَّ فِي ذلك} الذي ذكرت {لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى} أي لذوي العقول، واحدها نُهية، سُمّيت بذلك لأنّها تنهى صاحبها عن القبائح والفضائح وارتكاب المحظورات والمحرّمات.
وقال الضحّاك: {لأُوْلِي النهى} يعني الذين ينتهون عمّا حُرَّم عليهم.
وقال قتادة: لذوي الورع، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: لذوي التقى.

1 | 2 | 3